محاسبة النفس على عام مضى
العنصر الأول: محاسبة النفس على عام انصرم، فقد مضت سنة كاملة لا ندري ما عملنا بها، إنما علمها عند ربي في كتاب: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:52] وهذا هو الخطاب العجيب! وهو الجواب الأريب الذي سُدد له موسى عليه السلام وهو يتكلم مع فرعون، ففرعون الطاغية المجرم يقول لموسى: ما بال القرون الأولى؟ ما لهم لا يتكلمون، ولا يتحدثون، ولم يخرجوا إلينا؟
فرد عليهم بجواب -يقول الزمخشري: لله دره من جواب- قال تعالى: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:51-52] لأن الشعور الإلحادي والمتزندق في الساحة ينظر إلى القبور فيجدها هامدة فيقول: لا بعث، فيقول:
أتيتُ القبور فناديتها ***** أين المعظم والمحتقر؟!
تفانوا جميعاً فما مخبر ***** وماتوا جميعاً ومات الخبر
لكن -والله- ليبعثرن ما في القبور، وليحصلن ما في الصدور.
يقول الحسن البصري رحمه الله -والكلام إليه صحيح- لما قرأ قوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة:1-2] قال معلقاً على النفس: “لا تجد المسلم إلا لوَّاماً لنفسه، يقول: ماذا فعلت بأكلتي؟ وماذا أردت بكلمتي؟ فهو يلوم نفسه دائماً. أما الفاجر فيعربد ولا يلوي على شيء، غره منصبه ووظيفته وقصره وسيارته: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46] وقال تعالى أيضاً: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا [الأعراف:179] وهي حياة الإنسان يوم يبلغ مبلغ البهيمة، ويوم يسير في مسلاخ الدابة لا يرى نوراً ولا إيماناً ولا استقامة.
النفوس في القرآن ثلاث:
– نفس أمارة: وهي نفس الجاهل المعربد الفاجر.
2- نفس لوامة: وهي نفس المؤمن الذي يخطئ ويخلط عملاً صحيحاً وآخر فاسداً.
3- ونفس مطمئنة: وهي نفس المؤمن الذي يبلغ درجة الإحسان ويطمئن إلى درجة البر: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30].
وآخر آية من القرآن -على القول الصحيح من أقوال أهل العلم- هي قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281] وتسمى آية المحاسبة، وآية التنقير؛ لأنها تلاحق العبد ليحاسب نفسه وينظر إلى مستقبله، وفي حديث حسن عند الترمذي عن شداد بن أوس رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الكيِّس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني} وهذه الكلمة إنما تخرج من شفاه محمد صلى الله عليه وسلم.
والناس فريقان: قوم حاسبوا أنفسهم وتزينوا للعرض الأكبر فخفف عنهم الحساب، وقوم أقبلوا بالجرائم والفواحش فسوف يرون يوم العرض الأكبر، كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18].
ابن مسعود ومحاسبة النفس:
في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه -وكان من المحاسبين لنفسه كثيراً- قال: [[المؤمن يرى ذنوبه كأنها جبل يريد أن يسقط عليه، والمنافق يرى ذنوبه كأنها ذباب وقع على أنفه فقال به: هكذا ]] ابن مسعود هذا العلامة، داعية أهل العراق يروي عنه الإمام أحمد في كتاب الزهد: أن تلاميذه مشوا وراءه فالتفت وقال: [[عودوا، والله لو تعلمون ذنوبي وخطاياي لحثوتم على رأسي التراب]].
كيف به لو رآنا وذنوبنا وخطايانا؟!
كيف به لو عاش في عصرنا وحالنا ووضعنا! كيف به لو دخل بيوتنا ورأى -والعياذ بالله- البعد عن منهج الله عز وجل؟!
فبدل القرآن؛ المجلة الخليعة، وبدل التلاوة؛ نغمة فاجرة، وبدل السواك؛ سيجارة، وبدل الجلسة النبوية؛ جلسة مع البلوت إلا من رحم ربك.
فهذه فرصة لهذه البيوت والقلوب والأجيال أن تعي مدلول رمضان.
إن رمضان لا يقدر بالأثمان، إنه فرصتنا وذكرياتنا، انتصرنا في رمضان على الشيطان والطغيان وننتصر بإذن الله على النفس.
فـبدر والفتح في رمضان، وقالوا: حطين وشقحب في رمضان.
فكانت غزواتنا دائماً في رمضان، ويسجل النصر بإذن الله للمسلمين، ولكن قبل أن يأتي رمضان، لا بد أن نقف وقفة جادة مع المحاسبة، وننظر ماذا فعلنا في هذه السجلات فإن الله عز وجل يقول: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114] وقد صح عن الفضيل بن عياض الذي وعظ الخلفاء فأبكاهم -عابد الحرمين- أنه قال: “والله إني أعرف من يُعَد كلامُه من الجمعة إلى الجمعة”، قال أهل العلم: “ربما يقصد نفسه”؛ لكنه كتم أنفاسه فما أخبر باسمه ورسمه وإلا فاسمه معروف في القلوب، هو الذي يعد كلماته، لأن الله يقول: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].
عمر بن الخطاب يحاسب نفسه:
وفي الصحيح أن عمر لما فاوض الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديبية، وقال: -في كلام طويل-: {كيف نرضى الدنية في ديننا؟!} أخذ عمر هذا الموقف فما نسيه من نفسه؛ لأنه ما كان يليق به رضي الله عنه قال: [[فعملت لهذا الموقف أعمالاً]] أي: أعمالاً صالحة تكفر عنه تلك الخطايا التي هي بجانب حسناته إنما هي قطرات في بحر.
وعند ابن كثير في حديث أنس بسند صحيح: [[أن عمر وقف وراء حائط وأخذ يحاسب نفسه ويقول: والله يا عمر! إن لم تتق الله ليعذبنك الله]].
من مواقف العلماء في المحاسبة:
وذكر ابن الماجشون في ترجمة ابن المبارك عن الحسن بن عرفة من تلاميذ ابن المبارك بسند جيد قال: أتى ابن المبارك من خراسان إلى بغداد ومعه قلم استعاره من رجل في خراسان ونسي القلم على أذنه حتى دخل بغداد فرأى القلم وقال: سبحان الله! نرد القلم إلى صاحبه، ثم ركب بغلته أياماً حتى رد القلم إلى صاحبه.
إن من يبلغ هذه الشفافية والمحاسبة والدقة لجدير أن ينال رضوان الله ورحمته.
يقول بعضهم: “ما بال السلف يشكون الذنوب وما بال الخلف لا يشكونها”.
قال أحد العلماء: “مثلنا كرجل له ثوب أبيض وأسود، فإذا لبس الأسود فما عليه ما تلطخ به، فتجده ينام في المزبلة ويخرج وثوبه كما كان، ومثل السلف كمثل رجل لبس ثوباً أبيض فهو يتأثر بأي شيء، ولذلك صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في دعاء الاستفتاح: {ونقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس} لأن الثوب الأبيض لا يقبل، وهذا هو مثل السلف.
جاء شيخ صوفي خرافي إلى ابن تيمية وقال: “يا بن تيمية كراماتنا تفسد عندك وتنجح عند التتار، فيعجب التتار من الكرامات التي نأتي بها وأنت إذا أتينا إليك أبطلت كراماتنا.
قال ابن تيمية: مثلك كفرس أبلق، والتتار كأن أفراسهم سود ونحن أفراسنا بيض، فالأبلق إذا دخل بين السود أصبح أبيض، وإذا دخل بين البيض أصبح أسود، فأنت إذا ذهبت إليهم أصبحت أبيض بما عندك من بقية إسلام؛ لأنهم معرضون، وإذا دخلت بيننا أصبحت أسود لما عندك من بدعة”، وهذا مثلنا وحالنا وقد خلطنا، لكن يقول الله: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:102].
قال ابن عباس: [[(عسى) في القرآن للتحقيق]] فأسأل الله تعالى أن يحقق لنا ولكم التوبة، فوالله! إنا معترفون بالذنب والخطيئة، وإنا نعترف بالتقصير والندم يوم نقارن أعمالنا بأعمال الصحابة، يوم نقرأ تراجم السلف، من الصحابة والتابعين لا ننظر إلى واقعنا؛ لأن الجيل والشباب المستقيم يوم نظروا إلى واقعنا، رأوا واقعاً مزرياً فعدوا أنفسهم كأنهم من الصحابة، ولو نظروا للأخيار لنقص عندهم المقدار.